كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}.
وفيما يعود إليه الضمير في {بِهِ} وجوه أحدها: ما نقله الزمخشري وهو أنه عائد إلى ما كانوا يقولون من غير علم ثانيها: أنه عائد إلى ما تقدم في الآية المتقدمة من علم، أي ما لهم بالله من علم فيشركون وقرئ {مَّا لَهُم بِهَا}.
وفيه وجوه أيضًا أحدها: ما لهم بالآخرة وثانيها: ما لهم بالتسمية ثالثها: ما لهم بالملائكة، فإن قلنا (ما لهم بالآخرة) فهو جواب لما قلنا إنهم وإن كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا عند الله وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عن علم، وإن قلنا بالتسمية قد تكون وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم، فإنهم يعلمون أنهم ليسوا في شك، إذ التسمية قد تكون وضعًا أوليًا وهو لا يكون بالظن بل بالعلم بأنه وضع، وقد يكون استعمالًا معنويًا ويتطرق إليه الكذب والصدق والعلم، مثال الأول: من وضع أولًا اسم السماء لموضوعها وقال هذا سماء، مثال الثاني: إذا قلنا بعد ذلك للماء والحجر هذا سماء، فإنه كذب، ومن يعتقده فهو جاهل، وكذلك قولهم في الملائكة إنها بنات الله، لم تكن تسمية وضعية، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون بأمر يجب استعمال لفظ البنات فيهم، وذلك كذب ومعتقده جاهل، فهذا هو المراد بما ذكرنا أن الظن يتبع في الأمور المصلحية، والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين، وأما في الاعتقادات فلا يغني الظن شيئًا من الحق، فإن قيل: أليس الظن قد يصيب، فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلًا؟ نقول المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل، ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير، لكن في الحق ينبغي أن يكون جازمًا لاعتقاد مطابقه، والظان لا يكون جازمًا، وفي الخير ربما يعتبر الظن في مواضع، ويحتمل أن يقال المراد من الحق هو الله تعالى، ومعناه أن الظن لا يفيد شيئًا من الله تعالى، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون يدل عليه قوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} [الحج: 6] وفيه لطيفة، وهي أن الله تعالى في ثلاثة مواضع منع من الظن، وفي جميع تلك المواضع كان المنع عقيب التسمية، والدعاء باسم موضعان منها في هذه السورة أحدهما: قوله تعالى: {إِنْ هي إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [النجم: 23].
والثاني: قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا}، والثالث: في الحجرات، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون يا أيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مّنَ الظن} [الحجرات: 11، 12] عقيب الدعاء بالقلب، وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان، وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل، وهذه المواضع الثلاثة أحدها: مدح من لا يستحق المدح كاللاّت والعزى من العز وثانيها: ذم من لا يستحق الذم، وهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن يسمونهم تسمية الأنثى وثالثها: ذم من لم يعلم حاله، وأما مدح من حاله لا يعلم، فلم يقل فيه: لا يتبعون إلا الظن، بل الظن فيه معتبر، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)} أي اترك مجادلتهم فقد بلغت وأتيت بما كان عليك، وأكثر المفسرين يقولون: بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: {فَأَعْرَضَ} منسوخ بآية القتل وهو باطل، فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له {وجادلهم بالتى هي أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثم لما لم ينفع، قال له ربه: فأعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، ولا يتبعون الحق، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة، فكيف يكون منسوخًا، والإعراض من باب أشكاه والهمزة فيه للسلب، كأنه قال: أزل العرض، ولا تعرض عليهم بعد هذا أمرًا، وقوله تعالى: {عن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} لبيان تقديم فائدة العرض والمناظرة، لأن من لا يصغي إلى القول كيف يفهم معناه؟ وفي {ذِكْرِنَا} وجوه الأول: القرآن الثاني: الدليل والبرهان الثالث: ذكر الله تعالى، فإن من لا ينظر في الشيء كيف يعرف صفاته؟ وهم كانوا يقولون: نحن لا نتفكر في آلاء الله لعدم تعلقنا بالله، وإنما أمرنا مع من خلقنا، وهم الملائكة أو الدهر على اختلاف أقاويلهم وتباين أباطيلهم، وقوله تعالى: {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} إشارة إلى إنكارهم الحشر، كما قالوا {إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [المؤمنون: 37] وقال تعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا} [التوبة: 38] يعني لم يثبتوا وراءها شيئًا آخر يعملون له، فقوله: {عن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} إشارة إلى إنكارهم الحشر، لأنه إذا ترك النظر في آلاء الله تعالى لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه.
وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه، فلا يبقى إذن فائدة في الدعاء، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طبيب القلوب، فأتى على ترتيب الأطباء، وترتيبهم أن الحال إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي وقيل آخر الدواء الكي، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولًا أمر القلوب بذكر الله فحسب فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس، فالذكر غذاء القلب، ولهذا قال أولًا: قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر لمن انتفع مثل أبي بكر وغيره ممن انتفع، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل، وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} [الأعراف: 184] {قُلِ انظروا} [يونس: 101] {أَفَلاَ يَنظُرُونَ} [الغاشيه: 17] إلى غير ذلك، ثم أتى بالوعيد والتهديد، فلما لم ينفعهم قال: أعرض عن المعالجة، واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
ثم قال تعالى: {ذلك مبلغهم من العلم} {ذلك} فيه وجوه الأول: أظهرها أنه عائد إلى الظن، أي غاية ما يبلغون به أنهم يأخذون بالظن وثانيها: إيثار الحياة الدنيا مبلغهم من العلم، أي ذلك الإيثار غاية ما بلغوه من العلم ثالثها: {فَأَعْرَضَ عن من تولى} [النجم: 29] وذلك الإعراض غاية ما بلغوه من العلم، والعلم على هذا يكون المراد منه العلم بالمعلوم، وتكون الألف واللام للتعريف، والعلم بالمعلوم هو ما في القرآن، وتقرير هذا أن القرآن لما ورد بعضهم تلقاه بالقبول وانشرح صدره فبلغ الغاية القصوى، وبعضهم قبله من حيث إنه معجزة، واتبع الرسول فبلغ الدرجة الوسطى، وبعضهم توقف فيه كأبي طالب، وذلك أدنى المراتب، وبعضهم رده وعابه، فالأولون لم يجز الإعراض عنهم، والآخرون وجب الإعراض عنهم، وكان موضع بلوغه من العلم أنه قطع الكلام معه الإعراض عنه، وعليه سؤال وهو: أن الله تعالى بين أن غايتهم ذلك: ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له، والصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله؟.
نقول ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله، فكأن عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيحقق العقاب، قال الزمخشري: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} كلام معترض بين كلامين، والمتصل قوله تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} [النجم: 29] {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} وعلى ما ذكرنا المقصود لا يتم إلا به، يكون كأنه تعالى قال: أعرض عنهم فإن ذلك غايتهم، ولا يوجد وراء ما ظهر منهم شيء، وكأن قوله: {عن من تولى} إشارة إلى قطع عذرهم بسبب الجهل، فإن الجهل كان بالتولي وإيثار العاجل.
ثم ابتدأ وقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} وفي المناسبة وجوه الأول: أنه تعالى لما قال: للنبي صلى الله عليه وسلم، أعرض وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الميل إلى إيمان قومه وكان ربما هجس في خاطره، أن في الذكرى بعد منفعة، وربما يؤمن من الكافرين قوم آخرون من غير قتال فقال له: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين، وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال، وعلى هذا فقوله: {بِمَنِ اهتدى} أي علم في الأزل، من ضل في تقديره ومن اهتدى، فلا يشتبه عليه الأمران، ولا يأس في الإعراض ويعد في العرف مصلحة ثانيها: هو على معنى قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ}.
[سبأ: 24] وقوله تعالى: {يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} [الأعراف: 87] ووجهه أنهم كانوا يقولون: نحن على الهدى وأنتم مبطلون وأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحجة عليهم فلم ينفعهم، فقال تعالى: أعرض عنهم وأجرك وقع على الله، فإنه يعلم أنكم مهتدون، ويعلم أنهم ضالون، والمتناظران إذا تناظرا عند ملك قادر مقصودهم ظهور الأمر عند الملك فإن اعترف الخصم بالحق فذاك، وإلا فغرض المصيب يظهر عند الملك فقال تعالى: جادلت وأحسنت، والله أعلم بالمحق من المبطل ثالثها: أنه تعالى لما أمر نبيه بالإعراض وكان قد صدر منهم إيذاء عظيم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمله رجاء أن يؤمنوا، فنسخ جميع ذلك فلما لم يؤمنوا فكأنه قال: سعيي وتحملي لإيذائهم وقع هباء، فقال الله تعالى: إن الله يعلم حال المضلين والمهتدين: لله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا من المهتدين.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{هُوَ} يسمى عمادًا وفصلًا، ولو قال: إن ربك أعلم لتمَّ الكلام، غير أن عند خلو الكلام عن هذا العماد ربما يتوقف السامع على سماع ما بعده، ليعلم أن: {أَعْلَمُ} خبر: {رَبَّكَ} أو هو مع شيء آخر خبر، مثاله لو قال: إن زيدًا أعلم منه عمرو يكون خبر زيد الجملة التي بعده، فإن قال: {هُوَ أَعْلَمُ} إنتفى ذلك التوهم.
المسألة الثانية:
{أَعْلَمُ} يقتضي مفضلًا عليه يقال: زيد أعلم من عمرو، والله أعلم ممن؟ نقول: أفعل يجيء كثيرًا بمعنى عالم لا عالم مثله، وحينئذ إن كان هناك عالم فذلك مفضل عليه وإن لم يكن ففي الحقيقة هو العالم لا غير، وفي كثير من المواضع أفعل في صفات الله بذلك المعنى يقال: الله أكبر وفي الحقيقة لا كبير مثله ولا أكبر إلا هو، والذي يناسب هذا أنه ورد في الدعوات يا أكرم الأكرمين كأنه قال: لا أكرم مثلك، وفي الحقيقة لا أكرم إلا هو وهذا معنى قول من يقول: {أَعْلَمُ} بمعنى عالم بالمهتدي والضال، ويمكن أن يقال: أعلم من كل عالم بفرض عالم غيره.
المسألة الثالثة:
علمته وعلمت به مستعملان، قال الله تعالى في الأنعام: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] ثم ينبغي أن يكون المراد من المعلوم العلم إذا كان تعلقه بالمعلوم أقوى، إما لقوة العلم وإما لظهور المعلوم وإما لتأكيد وجوب العلم به، وإما لكون الفعل له قوة، أما قوة العلم فكما في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ الليل وَنِصْفَهُ} [المزمل: 20] وقال: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} [العلق: 14] لما كان علم الله تعالى تامًا شاملًا علقه بالمفعول الذي هو حال من أحوال عبده الذي هو بمرأى منه من غير حرف، ولما كان علم العبد ضعيفًا حادثًا علقه بالمفعول الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذي لا يحيط به علم البشر بالحرف أو لما كان كون الله رائيًا لم يكن محسوسًا به مشاهدًا علق الفعل به بنفسه وبالآخر بالحرف، وأما ظهور المعلوم فكما قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} [الزمر: 52] وهو معلوم ظاهر وأما تأكيد وجوب العلم به كما في قوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [محمد: 19] ويمكن أن يقال: هو من قبيل الظاهر، وكذلك قوله تعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} [التوبة: 2] وأما قوة الفعل فقال تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى} لما كان المستعمل صفة الفعل علقه بالمفعول بغير حرف وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن} كما كان المستعمل اسمًا دالًا على فعل ضعف عمله لتعلقه بالمفعول.
المسألة الرابعة:
قدم العلم بمن ضل على العلم بالمهتدي في كثير من المواضع منها في سورة الأنعام ومنها في سورة: {ن} ومنها في السورة، لأن في المواضع كلها المذكور نبيه صلى الله عليه وسلم والمعاندون، فذكرهم أولًا تهديدًا لهم وتسلية لقلب نبيه عليه الصلاة والسلام.
المسألة الخامسة:
قال في موضع واحد من المواضع: {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] وفي غيره قال: {بِمَن ضَلَّ} فهل عندك فيه شيء؟ قلت: نعم، ونبين ذلك ببحث عقلي وآخر نقلي: أما العقلي: فهو أن العلم القديم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، إن وجد أمس علم أنه وجد أمس في نهار أمس، وليس مثل علمنا حيث يجوز أن يتحقق الشيء أمس، ونحن لا نعلمه إلا في يومنا هذا بل: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقال ذَرَّةٍ في السموات وَلاَ في الأرض} ولا يتأخر الواقع عن علمه طرفة عين وأما النقلي: فهو أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا كان بمعنى المستقبل ولا يعمل عمله إذا كان ماضيًا فلا تقول: أنا ضارب زيدًا أمس، والواجب إن كنت تنصب أن تقول: ضربت زيدًا وإن كنت تستعمل اسم الفاعل فالواجب الإضافة تقول: ضارب زيد أمس أنا ويجوز أن يقال: أنا غدًا ضارب زيدًا والسبب فيه أن الفعل إذا وجد فلا تجدد له في (غير) الاستقبال، ولا تحقق له في الحال فهو عدم وضعف عن أن يعمل، وأما الحال وما يتوقع فله وجود فيمكن إعماله.
إذا ثبت هذا فنقول: لما قال: {ضَلَّ} كان الأمر ماضيًا وعلمه تعلق به وقت وجوده فعلم، وقوله: {أَعْلَمُ} بمعنى عالم فيصير كأنه قال: عالم بمن ضل فلو ترك الباء لكان إعمالًا للفاعل بمعنى الماضي، ولما قال: {يُضِلَّ} كان يعلم الضلال عند الوقوع وإن كان قد علم في الأزل أنه سيضل لكن للعلم بعد ذلك تعلق آخر سيوجد، وهو تعلقه بكون الضلال قد وقع وحصل ولم يكن ذلك في الأزل، فإنه لا يقال: إنه تعالى علم أن فلانًا ضل في الأزل، وإنما الصحيح أن يقال: علم في الأزل، فإنه سيضل، فيكون كأنه يعلم أنه يضل فيكون اسم الفاعل بمعنى المستقبل وهو يعمل عمل الفعل، فلا يقال: زيد أعلم مسألتنا من عمرو، وإنما الواجب أن يقال: زيد أعلم بمسألتنا من عمرو، ولهذا قالت النحاة في سورة الأنعام {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} يعلم من يضل وقالوا: {أَعْلَمُ} للتفضيل لا يبنى إلا من فعل لازم غير متعد، فإن كان متعديًا يرد إلى لازم.
وقولنا: علم كأنه من باب علم بالضم وكذا في التعجب إذا قلنا: ما أعلمه بكذا كأنه من فعل لازم.
وأما أنا فقد أجبت عن هذا بأن قوله: {أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} معناه عالم، وقد قدمنا ما يجب أن يعتقد في أوصاف الله في أكثر الأمر أن معناه أنه عالم ولا عالم مثله فيكون أعلم على حقيقته وهو أحسن من أن يقال: هو بمعنى عالم لا غير، فإن قيل: فلم قال ههنا: {بِمَن ضَلَّ} وقال هناك: {يُضِلَّ}؟ قلنا: لأن هاهنا حصل الضلال في الماضي وتأكد حيث حصل يأس الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بالإعراض، وأما هناك فقال تعالى من قبل: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 116].
ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن يُضِلَّ} بمعنى إن ضللت يعلمك الله فكان الضلال غير حاصل فيه فلم يستعمل صيغة الماضي.
المسألة السادسة:
قال في الضلال عن سبيله وهو كاف في الضلال لأن الضلال لا يكون إلا في السبيل، وأما بعد الوصول فلا ضلال أو لأن من ضل عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلًا أو (لم) يسلك وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول إن لم يسلكه، ويصحح هذا أن من ضل في غير سبيله فهو ضال ومن اهتدى إليها لا يكون مهتديًا إلا إذا اهتدى إلى كل مسألة يضر الجهل بها بالإيمان فكان الاهتداء اليقيني هو الاهتداء المطلق فقال: {بِمَنِ اهتدى} وقال: {بالمهتدين} [القلم: 7]. اهـ.